الأخلاق: من الفطرة إلى الوعي التشاركي — رحلة في بحث مرجعية الخير
سؤال محوري: من أين تأتي الأخلاق؟ هذا المقال يستعرض مصادر الأخلاق وينقدها، ثم يقترح رؤية بديلة تضع الوعي التشاركي في مركز الإلزام الأخلاقي.
مقدمة: لماذا تهمنا مسألة مرجعية الأخلاق؟
عند السؤال عن مرجعية الأخلاق، لا نبحث فقط عن أصل قواعد السلوك، بل عن مصدر الإلزام والقدرة على التمييز بين الخير والشر. معالجة هذا السؤال تلتقي فيها الفلسفة، الدين، وعلم النفس الأخلاقي.
أولاً: التيارات الفلسفية التقليدية — بين الفطرة والسلطة
١. الأخلاق كفطرة إنسانية (روسو)
يرى روسو أن الأخلاق امتداد لـ«الخير الطبيعي» في الإنسان، وأن التعاطف نزعة فطرية تظهر قبل التنشئة الاجتماعية.
نقاط القوة:
- تنسجم مع ميل الأطفال الفطري للتعاطف
- تتوافق مع دراسات الإدراك التي تثبت استعدادات أخلاقية أولية
- تقدّم أساساً داخلياً للأخلاق
نقاط الضعف:
- تعجز عن تفسير التباينات الثقافية في القيم
- لا تفسّر ظهور الشر والأنانية
- قد تقلل من دور التنشئة الاجتماعية
٢. الأخلاق كأداة قمع اجتماعي (نيتشه)
يرى نيتشه أن الأخلاق قد تكون أداة تاريخية للتحكّم: قيم الرحمة قد تسعى لاحتواء القوة وتحويلها بطرق اجتماعية.
نقاط القوة:
- تكشف علاقة القيم بالسلطة
- تفضح النفاق الأخلاقي واستغلال الخير
- تقدّم نقداً مفيداً للمنظومات المهيمنة
نقاط الضعف:
- تختزل الأخلاق إلى لعبة قوة
- تعجز عن تفسير التعاطف والندم كخبرات إنسانية
- لا تقدم أساساً إلزامياً عامًا
ثانياً: ما بعد التيارات التقليدية — الأخلاق كوعي تشاركي
تعتبر هذه الرؤية أن الأخلاق تنبع من شبكة علاقات إنسانية: الألم والتجربة الأخلاقية مشتركان، والفعل الأخلاقي استجابة لنداء الآخر. بهذا تتحوّل الأخلاق من قاعدة جامدة إلى وعي وممارسة مشتركة.
وفق هذه الرؤية تصبح الأخلاق بنية شبكية تتقاطع فيها: الدوافع، والسياق، والنتائج. إذ ننتقل من سؤال "ماذا فعلت؟" إلى "لماذا فعلت؟".
نقاط القوة:
- تربط النظرية بالتجربة الإنسانية اليومية
- تتناغم مع فلسفات معاصرة كليفيناس
- تقدّم تفسيراً للتعاطف والمسؤولية
- تجمع بين الفردي والجماعي
نقاط الضعف:
- تتطلب وعيًا لا يتوفر للجميع
- تفتقر إلى أساس إلزامي قوي
- قد تنهار أمام الأنانية الجماعية
المصادر الكبرى للأخلاق — الإلهي، العقلي، والنسبي
١. الموقف الإلهي
ينسب هذا الاتجاه مصدر الأخلاق إلى مرجعية دينية أو مطلقة، ما يمنحها إلزاماً ولكنه يثير سؤالاً فلسفياً معروفاً حول طبيعة الخير وقدسيته.
٢. الموقف العقلي (كانط)
يفترض كانط أن العقل وحده قادر على اشتقاق "الواجب الأخلاقي" عبر قواعد قابلة للتعميم، ما يمنح الأخلاق طابعًا موضوعيًا ولكنه يقرأ الخبرة الأخلاقية بمنظار عقلاني بحت.
٣. الموقف النسبي
يرى النسبيون أن الأخلاق نتاج ثقافي متغير؛ واقعي لكنه يضعف فكرة الإلزام العالمي.
أدوات التحليل الأخلاقي — العدسات الثلاث
١. العدسة الوجودية
تفحص أصالة الفعل: هل ينبع من الذات أم من تقليد اجتماعي؟
٢. العدسة العلائقية
تدرس أثر الفعل على الآخرين وشبكات العلاقات.
٣. العدسة الزمنية
تقيس بقاء القيمة الأخلاقية للفعل عبر الزمن.
الخاتمة: نحو رؤية أخلاقية شاملة
لا توجد مرجعية أحادية لـالأخلاق. إنها نتاج تفاعل بين الفطرة، العقل، المجتمع، الدين، والوعي التشاركي. إن جعل الآخر مركزًا للأخلاق يمنحنا أفقًا عمليًا وعمقياً للتحرّك الأخلاقي.
الأخلاق ليست خارجك؛ إنها أنت حين تنظر إلى الآخر وتراه إنسانًا.